الحملة المصرية للمطالبة بإعدام جمال مبارك

نظر باستغراب إلى عمود الزجاج المعلق على وجه مدخل البناية الجديدة، فكان مشروخا وفيه وجه يصرخ بخوف...بل هو وجه مشروخ ...
فرك عينيه عدة مرات ، فبدت الصورة واحدة .. استعاذ من الشيطان الرجيم ، فجاءت الضحكة من ورائه مرعبة.. تخيل الضحكة في البداية صدى لذلك الوجه المشروخ، ثم من غير توازن نظر خلفه فوجد امرأة تضحك بشراهة .. حاول ألا يعيرها انتباها مميزا .. ربما حاول أن يعدل من وضعه الفوضوي المتضعضع ..، ومن غير أن يبحلق النظر في جسدها المتطاول ..حاول أن يخلع رجليه اللتين تسمرتا في الأرض .. أن يهرب بعيدا .. لكنها حاصرته.. ومن خلال ضحكها المتواصل ، تفوهت باشمئزاز:

بكل تأكيد لم تتوقع أن تراني هنا قال من غير أن ينظر إلى وجهها

من حقك أن تكوني حيث قالت بسخرية متضاحكة

"إنهم يحاصرونك من كل ناحية ..عليك أن تأتي معي ،من غير لف أو دوران ، إلى ذلك الحبل المعلق؛ لتضع رأسك في دائرته باستسلام تام ."

أجال بصره في الجهات كلها ، كمن يستطلع شيئا مفقودا على عجل، ثم نظر في عينيها أو هكذا تخيل نفسه يفعل، ليعرف بقايا الأعماق .. لكن الأمور أصبحت بالنسبة له مؤخرا غير معروفة إطلاقا .. أعاد نظراته المبعثرة إلى العـمود الزجاجي ، فرأى الوجه المشروخ يتحول بفعل التشظي إلى عدة وجوه صارخة .. كأنه تمنى أن يرى جسده ممددا على فراش النوم؛ يحلم بهذا الكابوس ولا يراه ..

كيف جاءت إلى هنا وفي مثل هذا الوقت المتأخر من العمر .. إنها كـما قيل له (…) لم يعد يعرف ما الذي يدور بداخله .. فكيف والأمر أصبح الآن يتعلق بداخلها هي .. إنها تأتيه بعد أن تجاوز الأربعين بعامين .. كيف عرفت وجوده في هذا المكان المدحور؟!! ..

عادت له بكل الماضي دفعة واحدة ، وأضحت الأيام التي مر عليها غبار عشرين عاما تتراقص أمامه كأشباح فقدت عقولها .. كأن الأيام الماضية "

ابنة امبارح " ، كما كانت تقول جدته رحمها الله .. قال في نفسه يجب ألا يكون لي شأن الآن بما تبحث عنه .. كل شيء مات .. والشيء المهم الآن هو أن اعتبر نفسي ميتا منذ عشرين عاما، وأن هذا الجسد الموجود هو غير ذلك الجسد الذي مات .. إنني بكل تأكيد لست ذلك الطالب المراهق ..!! .

لكنه لا يستطيع..، فهو لا يبالي يتذكر جريمته الكبيرة التي علقت بذهنه، حتى تركت ضميره متيبسا من الرعب ...

" كانت فتاة جميلة ... وكان قد وعدها بالزواج .. وفي لحظة من العبث المجنون هرب، وتركها لمصيرها البائس .. حكاية مألوفة شاهدها آلاف المرات في المسلسلات الرديئة .. كما أن المسألة تحدث في أرقى المجتمعات .. كان عليها أن تتصرف، لا أن تبحث عني طيلة عشرين عاما من الضياع .. وماذا تريد مني الآن ؟!!أن أصلح غلطتي .. كان من الممكن أن يحدث هذا قبل عشرين عاما في إحدى اللحظات الثائرة ..!! أما الآن فالأمر لم يعد بهذه البساطة.. كان عليها أن تموت مثلي تماما ... أن تحرر ضميري من قيود العذاب.. أن تختار هي الهروب، وأكون أنا الضحية .. امرأة من مدينة بعيدة تحضر بعد عشرين عاما من مأساتها إلى قرية منزوية في قاع العالم من أجل أن تحاسب ميتا على ماضيه !! يا للكارثة !! كيف سيبرر موقفه أمام الآخرين بعد أن تنفجر في وجوههم معلنة أنه قبل أن يموت كان كذا وكذا وكذا .. وأنه لم يكن أكثر من لص غبي سرق أثمن ما لديها، وهرب تاركا امرأة تتلاعب بها رياح الخوف والمرارة والبحث عن الأمان ..يا أيها الجدار الذي يحمل هذا العمود المشروخ بكل الوجوه الصارخة .. هيا اصرخ بالكذبة أمامي حتى يتحقق الوهم لا الحقيقة ..!!

أراد أن يتحسسها؛ ليدرك مدى الحقيقة التي تقفز أمامه كقدر مخيف ، لكنها تتراجع قبل أن يحدث اللمس تاركة أموره تأخذ مجراها المتدهور كما النهر يشق طريقه!!

إن الصرخات المشروخة تهزه بعنف ..يتجمع حوله عدد كبير من الناس،ويصرخون أيضا في وجهه، حتى تحول الشارع إلى كوابيس من الأعمدة المليئة بالوجوه المشروخة والصراخ المشروخ .. ماذا يجب عليه أن يفعل أمام هذه الحشود الهائلة من الصرخات ؟!!

حاول أن يهدئ من روعها .. أن يعيد عاطفته المقتولة ليؤثر عليها ،كما كان يفعل في الماضي .. وأخيرا حاول أن يجثو على قدميها ..إنه يجثو على الأرض يبحث ويبحث، يتمرغ في التراب والبقايا ،ولا يسمع إلا الصراخ ،ولا يتوقع أن يرى سوى الوجوه المشروخة تتراكم فوقه فتغرقه في الوحل .. وكانوا كلهم يضحكون عليه

توقف عن التمرغ في التراب .. حاول أن يعدل من انهياراته .. إنه مشدود بأذرع عدة وجوه ومحاط بوجوه كثيرة .. بحث عنها وسط الكم الهائل من الأيدي والوجوه الضاحكة .. نظر إلى العمود الزجاجي ... قال لهم :
وأخيرا قرر أن يعترف

هرب منهم وراح يجوب الحارات وهو يصرخ .. يعترف .. ويعترف ..يضرب رأسه في الجدران المتلاصقة .. إنه يتحول إلى حالة من الجنون .. هل أدرك موته النهائي ؟؟ هل شعر بمأساته عندما أصبح نزيل المصحة
بحث عنها فوجدها في كل المرايا المشروخة والزجاج المشروخ تمارس الصراخ المشروخ .. وتدعوه إلى دائرة الحبل المغلقة التي ضاعت منه أخيرا .. ولم يعد يملك غير التمرغ في غبار عشرين عاما خلت

حين عاد صاحب الأوتاد .. كان يحمل بين يديه جذوعاً .. ينثرها على طول الطريق العريض .. يتشبث بأقصى الملاحم، ويطارد عناوين الحروب. ثم يخرج مجدوع الأنف .. لا يرى علامة من أجلها رحل بالأوتاد !
كان يحمل بين يديه جذوعاً .. ينثرها .. يبللها عرض الطريق – يمر مر الكرام – ويغمس ذاكرته بقسوة .. يضغط عليها وسط راحتيه .

يسير يتخبط بإعياء .. يلمس نهوداً .. يلمسها تتماوج داخل قيمص أصفر تفوح منه رائحة الجفاف .. يعثر على قطرة من العطش طافية .. يخلع عليها ملابس تقذف به القطرة إلى شفائف القفار .

تلوح من بعيد عناوين الحروب .. تنقض مغبرة .. ذوباً حارقاً يسري داخل الأعمار .. الفارس يقفز .. يلثم سحب الأحزان .. تسبح بلون الشرايين .. تسبح .. تتمدد على تضاريس جسم محترق .. تتعلق رائحته برموش القمر .
يمسك الفارس بعنان فرسه .. يقبض عليه بشدة يعصره بين أصابعه المشتعلة ..
يعرف أن أن وقت الذبول يقترب .. يدنو من حطبة تائهة ويفترش رذاذ الصحراء، يدفن يديه . يدفن يديه .. يدفن يديه ووجهه .. يبلل سهامه .. يغسلها من ماء القلب الحميم .. السماء تربو دمامل متحاشدة كالحصباء في الهجير .
الفارس أذناه تسحقان صوتاً ممطوطاً .. تسحقه أجران الجذور المعتقة في خباياه ممتداً طويلاً .. الصوت يقترب .. لا يقترب .. ينسكب في الأبعاد العميقة
نافذة على العالم
يقفز الفارس .. ينتعل صهوة جواده .. ويطارد الأصداء .. يتصيدها فتتشتت في حناجر الكثبات .. تحملها الرياح الهوجاء .. تعلو تارة فوق الآمال السرية على المناكب .. تهبط حدر الكعوب الموصدة المدفونة .. تارة !

يدخل الفارس المدينة متقلداً صارمه الخشبي .. طال به الصيام .. يكاد يأكل لحم عضده .. يميل منحدراً يسلخ أوهام الجوع ليلقيها وراء ستارات الشبق .. ويتبع خيوطاً كالدم .. إنها تحفر الأثر لعله يهتدي .. إنها الطريق التي لا يجهلها غيره .. يلزم الطريق .. يقضي يوم زمانه يتجول بين براقع المدينة .. يشحذ المارة خبزاً .. يستسقيهم .. لا يفهمونه .. لا يجيبونه .

يقف مرتفعاً .. يكشف عن بطنه .. يكشف عن .. علامة الطوى تحترق على الغربة الشبقية الشمطاء.. يتقدم أحد المارة ويلكمه بيد حديدية وتسيل شبعاً .. يضحك الجميع يمطرونه بعبارات التشجيع !

يصرخ الفارس ويحزم جوعه الكاسر .. يعصمه بأنات يعلوها تسرب ينبوع من الحزن المعتق في الداخل.. يشير إلى فمه يرفع سبابته عالياً .. يرفعها فوق رأسه .. يغرزها في شفتيه الملتهبتين ظمأ .. يتقدم كريم .. يحمل كأساً صغيراً بداخله ماء ناضج .. ويصطدم بأصابع سهام إلى عيني (الفارس القديم) الزائغتين جوعاً
الحملة المصرية

ينزل الفارس إلى جواده .. يرتكز عليه نحو الطريق المغبر .. المغبر
يفتش عن وشل .. لا يجده .. يجده منتزعاً .. يمرر بيديه على أعطاف القميص المفضض .. ينثر هشيماً .. يتطاير أمام أجنحة الرياح المتهدلة .. الجفاف .. الجفاف .

والعطش قطرات حامية تهدده .. أنات العمر المسروق .. تهدده .. لا تهدده .. لا .

يمضي (الفارس قديماً) بين الأعطاف المتهدجة .. يبحث عن أمل سري مسحوق .. يجد له رائحة الشواء تنفذ إلى مداخل البحث .

يقفز ويصفق ويدور حول جواده الذي .. الذي يبدأ يداعب صهيله .. ينقب زوايا السكون .. تتجاذبه رؤوس الكثبان في بطء شديد .

يرقص الفارس على مواطئ قدميه .. يفقد الخشبي .. تزدرده بلاعم الصحراء .. تودعه بطنها الحلزوني الطويل .. تخفيه عن الأحداق الملتهبة بحثاً .. يعود الفارس .. يتمرغ كالثعلب في الدميسة ويعود ينقب عن سلاح هامد في حلقات العدم وحين .. حين .. حين قال : لو أنه حاد لما غاب في رغاوة الزبد الصحراوي
 

 

Free Web Hosting